فصل: من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: مَعْنَاهُ أَحِلُّوا حَلَالَهُ وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ، وَامْتَثِلُوا أَمْرَهُ، وَاجْتَنِبُوا نَهْيَهُ، وَاسْتَبِيحُوا مُبَاحَهُ، وَارْجُوا وَعْدَهُ، وَخَافُوا وَعِيدَهُ، وَاقْتَضُوا حُكْمَهُ، وَانْشُرُوا مِنْ عِلْمِهِ عِلْمَهُ، وَاسْتَجْسُوا خَبَايَاهُ، وَلِجُوا زَوَايَاهُ، وَاسْتَثِيرُوا جَاثِمَهُ؛ وَفُضُّوا خَاتَمَهُ، وَأَلْحِقُوا بِهِ مُلَائِمَهُ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: بِاتِّبَاعِ مَا يُؤْثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ عَارَضَهُ إذَا وَضَّحَ مَسْلَكَهُ؛ فَتَارَةً يَكُونُ نَاسِخًا لَهُ، وَأُخْرَى خَاصًّا وَمُتَمِّمًا فِي حُكْمٍ عَلَى طُرُقِ مَوَارِدِهِ الْمَعْلُومَةِ، بِشُرُوطِهَا الْمَحْصُورَةِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
سُورَةُ الْأَعْرَافِ:
وَهِيَ السُّورَةُ السَّابِعَةُ فِي الْعَدَدِ وَسَادِسَةُ السَّبْعِ الطُّوَلِ وَآيَاتُهَا 205 آيَاتٍ عِنْدَ الْقُرَّاءِ الْبَصْرِيِّينَ وَالشَّامِيِّينَ و206 عِنْدَ الْمَدَنِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ.
الْأَعْرَافُ مَكِّيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ أُطْلِقَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَاسْتَثْنَى قَتَادَةُ آيَةَ {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} (163) رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ حِبَّانَ. قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي الْإِتْقَانِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: مِنْ هُنَا إِلَى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} (172) مَدَنِيٌّ. اهـ. وَكَأَنَّ قَائِلَ هَذَا رَأَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مُتَّصِلٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ بِالْمَعْنَى فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا مَكِّيًّا وَبَعْضُهَا مَدَنِيًّا وَبِهَذَا النَّظَرِ نَقُولُ: إِنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا بَعْدَهَا فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قِصَّةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَنَّ الْغَايَةَ وَهِيَ {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي الْمُغَيَّا فَهِيَ بَدْءُ سِيَاقٍ جَدِيدٍ عَامٍّ. وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ.
مُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا:
سُورَةُ الْأَعْرَافِ أَطْوَلُ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، فَلَوْ كَانَ تَرْتِيبُ السَّبْعِ الطُّوَلِ مُرَاعًى فِيهِ تَقْدِيمُ الْأَطْوَلِ فَالْأَطْوَلِ مُطْلَقًا لَقُدِّمَتِ الْأَعْرَافُ عَلَى الْأَنْعَامِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَهَا- وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً مِثْلَهَا- فَلَمْ يَبْقَ وَجْهٌ لِتَقْدِيمِ الْأَنْعَامِ إِلَّا أَنَّهَا أَجْمَعُ لِمَا تَشْتَرِكُ السُّورَتَانِ فِيهِ وَهُوَ أَصُولُ الْعَقَائِدِ وَكُلِّيَّاتِ الدِّينِ الَّتِي أَجْمَلْنَا جُلَّ أُصُولِهَا فِي خَاتِمَةِ تَفْسِيرِهَا، وَكَوْنِ مَا أُطِيلُ بِهِ فِي الْأَعْرَافِ كَالشَّرْحِ لِمَا أُوجِزَ بِهِ فِيهَا أَوِ التَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ، وَلاسيما عُمُومُ بَعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِصَصُ الرُّسُلِ قَبْلَهُ وَأَحْوَالُ أَقْوَامِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا بَعْضَ هَذَا التَّنَاسُبِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ مَعَ مَا قَبْلَهُمَا فِي فَاتِحَةِ تَفْسِيرِ الْأُولَى (رَاجِعْ ص240 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 ط الْهَيْئَةِ) وَسَنَزِيدُهُ تَفْصِيلًا فِيمَا نَذْكُرُهُ فِي خَاتِمَةِ الْأَعْرَافِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي خَاتِمَةِ الْأَنْعَامِ مِنَ الْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ فِيهَا إِنْ أَحْيَانَا اللهُ تَعَالَى. وَأَمَّا سَبَبُ تَأْخِيرِ نُزُولِ الْأَنْعَامِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا عُلِمَ مِنَ التَّدْرِيجِ فِي تَلْقِينِ الدِّينِ وَمُرَاعَاةِ اسْتِعْدَادِ الْمُخَاطَبِينَ فِيهِ وَهِيَ أَجْمَعُ لِلْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ وَلِرَدِّ شُبُهَاتِ الْمُشْرِكِينَ، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ بَيْنَ مَا يُرَاعَى مِنَ التَّرْتِيبِ فِي دَعْوَتِهِمْ وَمَا يُرَاعَى فِي تِلَاوَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِلْقُرْآنِ.
وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ مَا نَقَلَهُ الألوسي عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ لَمَّا كَانَتْ لِبَيَانِ الْخَلْقِ وَفِيهَا {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} [6: 2] وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي بَيَانِ الْقُرُونِ: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} [6: 6] وَأُشِيرَ إِلَى ذِكْرِ الْمُرْسَلِينَ وَتَعْدَادِ الْكَثِيرِ مِنْهُمْ وَكَانَ مَا ذُكِرَ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ- جِيءَ بِهَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَهَا مُشْتَمِلَةً عَلَى شَرْحِهِ وَتَفْصِيلِهِ، فَبُسِطَ فِيهَا قِصَّةُ آدَمَ، وَفُصِّلَتْ قِصَصُ الْمُرْسَلِينَ وَأُمَمِهِمْ وَكَيْفِيَّةِ هَلَاكِهِمْ أَكْمَلَ تَفْصِيلٍ. وَيَصْلُحُ هَذَا أَنْ يَكُونَ تَفْصِيلًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ} [6: 165] وَلِهَذَا صَدَّرَ السُّورَةَ بِخَلْقِ آدَمَ الَّذِي جَعَلَهُ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي قِصَّةِ عَادٍ: {جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} (69) وَفِي قِصَّةِ ثَمُودَ: {جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} (74) وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [6: 54] وَهُوَ كَلَامٌ مُوجَزٌ وَبَسَطَهُ سُبْحَانَهُ هُنَا بِقَوْلِهِ: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} (156) وَأَمَّا وَجْهُ ارْتِبَاطِ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ بِآخِرِ الْأُولَى فَهُوَ أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [6: 153] {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} [6: 155] وَافْتَتَحَ هَذِهِ بِالْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَأَيْضًا لِمَا تَقَدَّمَ {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [6: 159] {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [6: 164] قَالَ جَلَّ شَأْنُهُ فِي مُفْتَتَحِ هَذِهِ السُّورَةِ: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} (6) إِلَخْ. وَذَلِكَ مِنْ شَرْحِ التَّنْبِئَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَيْضًا لَمَّا قَالَ سُبْحَانَهُ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} [6: 160] الْآيَةَ وَذَلِكَ لَا يَظْهَرُ إِلَّا فِي الْمِيزَانِ افْتَتَحَ هَذِهِ بِذِكْرِ الْوَزْنِ فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} (8) ثُمَّ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ وَهُوَ مَنْ زَادَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، ثُمَّ مَنْ خَفَّتَ وَهُوَ عَلَى الْعَكْسِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ وَهُمْ فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ مَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمُ اهـ. وَنَكْتَفِي بِهَذَا مَعَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ قَبْلَهُ هُنَا وَإِنْ كَانَ مِنَ السَّهْلِ بَسْطُهُ بِأَوْضَحَ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ وَالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ. وَنَشْرَعُ فِي تَفْسِيرِ السُّورَةِ مُسْتَعِينِينَ بِإِلْهَامِهِ وَتَفْهِيمِهِ عَزَّ وَجَلَّ.
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}
{المص (1)}
{المص} هَذِهِ حُرُوفٌ مُرَكَّبَةٌ فِي الرَّسْمِ بِشَكْلِ كَلِمَةٍ ذَاتِ أَرْبَعَةِ أَحْرُفٍ وَلَكِنَّهَا تُقْرَأُ بِأَسْمَاءِ هَذِهِ الْأَحْرُفِ سَاكِنَةً هَكَذَا: أَلِفْ، لَامْ، مِيمْ، صَادْ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّ حِكْمَةَ افْتِتَاحِ هَذِهِ السُّورَةِ وَأَمْثَالِهَا بِأَسْمَاءِ حُرُوفٍ لَيْسَ لَهَا مَعْنًى مَفْهُومٌ غَيْرُ مُسَمَّى تِلْكَ الْحُرُوفِ الَّتِي يَتَرَكَّبُ مِنْهَا الْكَلَامُ هِيَ تَنْبِيهُ السَّامِعِ إِلَى مَا سَيُلْقَى إِلَيْهِ بَعْدَ هَذَا الصَّوْتِ مِنَ الْكَلَامِ حَتَّى لَا يَفُوتَهُ مِنْهُ شَيْءٌ. فَهِيَ كَأَدَاةِ الِافْتِتَاحِ أَلَا وهَاءِ التَّنْبِيهِ. وَإِنَّمَا خُصَّتْ سُوَرٌ مُعَيَّنَةٌ مِنَ الطُّوَلِ وَالْمِئِينَ الْمَثَانِي وَالْمُفَصَّلِ بِهَذَا الضَّرْبِ مِنَ الِافْتِتَاحِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتْلُوهَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ لِدَعْوَتِهِمْ بِهَا إِلَى الْإِسْلَامِ وَإِثْبَاتِ الْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةِ، وَكُلُّهَا مَكِّيَّةٌ إِلَّا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ- وَكَانَتِ الدَّعْوَةُ فِيهِمَا مُوَجَّهَةً إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ- وَكُلُّهَا مُفْتَتَحَةٌ بِذِكْرِ الْكِتَابِ إِلَّا سُورَةَ مَرْيَمَ وَسُورَتَيِ الْعَنْكَبُوتِ وَالرُّومِ وَسُورَةَ ن. وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَعْنًى مِمَّا فِي هَذِهِ السُّوَرِ يَتَعَلَّقُ بِإِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ وَالْكِتَابِ.
فَأَمَّا سُورَةُ مَرْيَمَ فَقَدْ فُصِّلَتْ فِيهَا قِصَّتُهَا بَعْدَ قِصَّةِ يَحْيَى وَزَكَرِيَّا الْمُشَابِهَةِ لَهَا. وَيَتْلُوهُمَا ذِكْرُ رِسَالَةِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ مَبْدُوءًا كُلٌّ مِنْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ} وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْقُرْآنُ. فَكَأَنَّهُ قَالَ فِي كُلٍّ مِنْ قِصَّةِ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَقِصَّةِ مَرْيَمَ وَعِيسَى {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ} وَذِكْرُ هَذِهِ الْقِصَصِ فِي الْقُرْآنِ مِنْ دَلَائِلِ كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ هَذَا لَا هُوَ وَلَا قَوْمُهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي سُورَةِ هُودٍ بَعْدَ تَفْصِيلِ قِصَّةِ نُوحٍ مَعَ قَوْمِهِ بِقَوْلِهِ: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [11: 49] وَكَمَا قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ يُوسُفَ بَعْدَ سَرْدِ قِصَّتِهِ مَعَ إِخْوَتِهِ: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [12: 102] وَخُتِمَتْ هَذِهِ السُّورَةُ أَيْ سُورَةُ مَرْيَمَ بِإِبْطَالِ الشِّرْكِ وَإِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَنَفْيِ اتِّخَاذِ اللهِ تَعَالَى لِلْوَلَدِ، وَتَقْرِيرِ عَقِيدَةِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. فَهِيَ بِمَعْنَى سَائِرِ السُّوَرِ الَّتِي كَانَتْ تُتْلَى لِلدَّعْوَةِ وَيُقْصَدُ بِهَا إِثْبَاتُ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَرِسَالَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَصِدْقِ كِتَابِهِ الْحَكِيمِ.
وَأَمَّا سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ وَسُورَةُ الرُّومِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا قَدِ افْتُتِحَتْ بَعْدَ {الم} بِذِكْرِ أَمْرٍ مِنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالدَّعْوَةِ. فَالْأَوَّلُ الْفِتْنَةُ فِي الدِّينِ، وَهِيَ إِيذَاءُ الْأَقْوِيَاءِ لِلضُّعَفَاءِ وَاضْطِهَادُهُمْ لِأَجْلِ إِرْجَاعِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ بِالْقُوَّةِ الظَّاهِرَةِ. كَانَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يُطْفِئُونَ نُورَ الْإِسْلَامِ وَيُبْطِلُونَ دَعْوَتَهُ بِفِتْنَتِهِمْ لِلسَّابِقِينَ إِلَيْهِ وَأَكْثَرُهُمْ مِنَ الضُّعَفَاءِ الَّذِينَ لَا نَاصِرَ لَهُمْ مِنَ الْأَقْوِيَاءِ بِحَمِيَّةِ نَسَبٍ وَلَا وَلَاءٍ وَكَانَ الْمُضْطَهَدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَجْهَلُونَ حِكْمَةَ اللهِ بِظُهُورِ أَعْدَائِهِ عَلَيْهِمْ، فَبَيَّنَ اللهُ فِي فَاتِحَةِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ الْفِتْنَةَ فِي الدِّينِ مِنْ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ يَمْتَازُ بِهَا الصَّادِقُونَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، لِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ، وَتَكُونُ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ الصَّابِرِينَ. فَكَانَتِ السُّورَةُ جَدِيرَةً بِأَنْ تُفْتَتَحَ بِالْحُرُوفِ الْمُنَبِّهَةِ لِمَا بَعْدَهَا. وَالْأَمْرُ الثَّانِي الَّذِي افْتُتِحَتْ بِهِ سُورَةُ الرُّومِ هُوَ الْإِنْبَاءُ بِأَمْرٍ وَقَعَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمَّا يَكُنْ وَصَلَ خَبَرُهُ إِلَى قَوْمِهِ- وَبِمَا سَيَعْقُبُهُ مِمَّا هُوَ فِي ضَمِيرِ الْغَيْبِ ذَلِكَ أَنَّ دَوْلَةَ فَارِسَ غَلَبَتْ دَوْلَةَ الرُّومِ فِي الْقِتَالِ الَّذِي كَانَ قَدْ طَالَ أَمْرُهُ بَيْنَهُمَا فَأَخْبَرَ اللهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، وَبِأَنَّ الْأَمْرَ سَيَدُولُ وَتَغْلِبُ الرُّومُ الْفُرْسَ فِي مَدَى بِضْعِ سِنِينَ. وَبِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَنْصُرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ صَدَقَ الْخَبَرُ وَتَمَّ الْوَعْدُ فَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُعْجِزَةً مَنْ أَظْهَرِ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ وَالْآيَاتِ الْمُثْبِتَةِ لِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَلَوْ فَاتَ مَنْ تَلَاهَا عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَةٌ مِنْ أَوَّلِهَا لَمَا فَهِمُوا مِمَّا بَعْدَهَا شَيْئًا فَكَانَتْ جَدِيرَةً بِأَنْ تُبْدَأَ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُسْتَرْعِيَةِ لِلْأَسْمَاعِ الْمُنَبِّهَةِ لِلْأَذْهَانِ. وَكَانَ هَذَا بَعْدَ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ بَعْضَ الِانْتِشَارِ، وَتَصَدِّي رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ لِمَنْعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الدَّعْوَةِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ عَلَى النَّاسِ وَلاسيما فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ، وَكَانَ السُّفَهَاءُ يَلْغَطُونَ إِذَا قَرَأَ وَيَصْخُبُونَ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [41: 26].
وَأَمَّا سُورَةُ ن فَفَاتِحَتُهَا وَخَاتِمَتُهَا فِي بَيَانِ تَعْظِيمِ شَأْنِ الرَّسُولِ صَاحِبِ الدَّعْوَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَفْعِ شُبْهَةِ الْجُنُونِ عَنْهُ، وَهِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ بَعْدَ سُورَةِ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [96: 1] وَكَانَتْ شُبْهَةُ رَمْيِهِ- حَمَاهُ اللهُ وَكَرَّمَهُ- بِتُهْمَةِ الْجُنُونِ مِمَّا يَتَبَادَرُ إِلَى الْأَذْهَانِ مِنْ غَيْرِ عَدَاوَةٍ وَلَا مُكَابَرَةٍ، فَإِنَّ رَجُلًا أُمِّيًّا فَقِيرًا وَادِعًا سَلِمًا، لَيْسَ بِرَئِيسِ قَوْمٍ وَلَا قَائِدِ جُنْدٍ، وَلَا ذِي تَأْثِيرٍ فِي الشَّعْبِ بِخِطَابِةٍ وَلَا شِعْرٍ، يَدَّعِي أَنَّ جَمِيعَ الْبَشَرِ عَلَى ضَلَالِ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ، وَأَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ لِهِدَايَةِ هَؤُلَاءِ الْخَلْقِ، وَأَنَّ دِينَهُ سَيَهْدِي الْعَرَبَ وَالْعَجَمَ، وَإِصْلَاحَ شَرْعِهِ سَيَعُمُّ جَمِيعَ الْأُمَمِ، لَا يُسْتَغْرَبُ مِنْ مَدَارِكِ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الْأُمِّيِّينَ الْجَاهِلِينَ بِسُنَنِ اللهِ فِي الْأُمَمِ وَآيَاتِهِ فِي تَأْيِيدِ الْمُرْسَلِينَ، أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ مَا يَصِفُونَ بِهِ صَاحِبَ هَذِهِ الدَّعْوَى قَبْلَ ظُهُورِ الْآيَاتِ وَالْعُلُومِ بِقَوْلِهِمْ: {إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} وَبَعْدَ ظُهُورِهَا بِقَوْلِهِمْ: {سَاحِرٌ أَوْ كَاهِنٌ أَوْ مَجْنُونٌ} وَبَعْدَ ظُهُورِ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ: بِقَوْلِهِمْ: {مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} (51: 52، 53).
نَعَمْ قَدْ قِيلَ: إِنَّ ن هُنَا بِمَعْنَى الدَّوَاةِ، وَلِذَلِكَ قُرِنَ بِالْقَلَمِ لِبَيَانِ أَنَّ هَذَا الدِّينَ يَقُومُ بِالْعِلْمِ وَالْكِتَابَةِ، كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ قَبْلَهَا: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} (96: 3، 4) وَقِيلَ: إِنَّهُ بِمَعْنَى الْحُوتِ لِأَنَّ فِي السُّورَةِ ذِكْرًا لِصَاحِبِ الْحُوتِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا أَوْ ذَاكَ لَمَا كُتِبَتِ النُّونُ مُفْرَدَةً وَنُطِقَتْ سَاكِنَةً، بَلْ كَانَتْ تُذْكَرُ مُرَكَّبَةً وَمُعْرَبَةً كَقَوْلِهِ: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} [21: 87] وَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذُكِرَ، كَمَا يَصِحُّ فِي سَائِرِ تِلْكَ الْحُرُوفِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا إِشَارَاتٌ إِلَى مَعَانٍ مُعَيَّنَةٍ تَظْهَرُ لِبَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ، أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ تَذْهَبُ فِيهَا الْأَفْهَامُ مَذَاهِبَ تُفِيدُ أَصْحَابَهَا عِلْمًا أَوْ عِبْرَةً، بِشَرْطِ أَنْ تَتَّفِقَ مَعَ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا مُرَادَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِحَسَبِ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى مَعَانِيهَا.
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الْأَخِيرِ جَعَلَ بَعْضُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ هَذِهِ الْأَحْرُفَ مُقْتَطَعَةً مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى أَوْ مِنْ جُمَلٍ مِنَ الْكَلَامِ تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا: أَخْرَجَ أَكْثَرُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي {المص} قَالَ أَنَا اللهُ أَفْضَلُ. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَرَوَى هُوَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِيهِ قَالَ: هُوَ الْمُصَوِّرُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ فِيهِ قَالَ: الْأَلِفُ مِنَ اللهِ، وَالْمِيمُ مِنَ الرَّحْمَنِ، وَالصَّادُ مِنَ الصَّمَدِ. وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ فِيهِ قَالَ: أَنَا اللهُ الصَّادِقُ. وَرَوَى أَبْنَاءُ جَرِيرٍ، وَالْمُنْذِرُ، وَأَبُو حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {المص} و{طه} و{طسم} و{حم عسق} و{ق} و{ن} وَأَشْبَاهُ هَذَا أَنَّهُ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللهُ بِهِ وَهِيَ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى.